تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

حصين قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها» (١).

وقال الزجاج : أي : إذا اتقى وآثر الحلال والصبر على أهله فتح الله عليه إن كان ذا ضيقة ، ورزقه من حيث لا يحتسب. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا ، ورزقه من حيث لا يحتسب» (٢).

(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ) أي : يسند أموره كلها معتمدا فيها (عَلَى اللهِ) أي : الملك الذي بيده كل شيء ولا كفء له (فَهُوَ) أي : الله في غيبه فضلا عن الشهادة بسبب توكله (حَسْبُهُ) أي : كافيه ما أهمه ، وحذف المتعلق للتعميم ، وحرف الاستعلاء للإشارة إلى أنه كان حمل أموره كلها عليه سبحانه ، لأنه القوي العزيز الذي يدفع عنه كل ضار ويجلب له كل سار إلى غير ذلك من المعاني الكبار ، فلا يبدو له عالم الشهادة شيء يشينه.

وقيل : من اتقى الله وجانب المعاصي وتوكل عليه فله فيما يعطيه في الآخرة من ثوابه كفاية ولم يرد الدنيا ، لأن المتوكل قد يصاب في الدنيا وقد يقتل ، وفي الحديث : «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» (٣) ويؤخذ من هذا أن التوكل يكون مع مباشرة الأسباب لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : تغدو وتروح وهي من المقامات العظيمة. قال البقاعي نقلا عن المولوي : وإلا كان اتكالا ، وليس بمقام بل خسة همة وعدم مروءة ؛ لأنه إبطال حكمة الله التي أحكمها في الدنيا من ترتب المسببات على الأسباب. ا. ه.

ولما كان ذلك أمرا لا يكاد يحيط به الوهم بقوله تعالى مهوّلا له بالتأكيد والإظهار في موضع الإضمار : (إِنَّ اللهَ) أي : المحيط بكل كمال المنزه عن كل شائبة نقص (بالِغُ أَمْرِهِ) أي : جميع ما يريده فلا بد من نفوذه سواء حصل توكل أم لا ، قال مسروق : يعني قاض أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه ، إلا أن من توكل عليه يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا. وقرأ حفص : بالغ ، بغير تنوين وأمره بالجر مضاف إليه على التخفيف ، والباقون بالتنوين ، وأمره بنصب الراء وضم الهاء. قال ابن عادل : وهو الأصل خلافا لأبي حيان (قَدْ جَعَلَ اللهُ) أي : الملك الذي لا كفء له ولا معقب لحكمه جعلا مطلقا من غير تقييد بجهة ولا حيثية (لِكُلِّ شَيْءٍ) كرخاء وشدة (قَدْراً) أي : تقديرا لا يتعداه في مقداره وزمانه وجميع عوارضه وأحواله ، وإن اجتهد جميع الخلائق في أن يتعداه. فمن توكل استفاد الأجر ، وخفف عنه الألم ، وقذف في قلبه السكينة ، ومن لم يتوكل لم ينفعه ذلك ، وزاد ألمه وطال غمه بشدة وخيبة أسبابه التي يعتقد أنها هي المنجية. فمن رضي فله

__________________

(١) أخرجه الطبراني في العجم الصغير ١ / ١٦ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٣٠٣ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٩ / ٣٨٨ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ٢٣٣ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٢ / ٥٣٧ ، ٣ / ٤٤٤ ، ٤ / ١٢٢ ، ١٧٨ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٦٢٧٣.

(٢) أخرجه أبو داود في الصلاة حديث ١٥١٨ ، وابن ماجه في الأدب حديث ٣٨١٩ ، بلفظ : «من لزم الاستغفار ...».

(٣) أخرجه الترمذي في الزهد حديث ٣٣٤٤ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤١٦٤ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٠ ، ٥٢.

٣٤١

الرضا ، ومن سخط فله السخط جف القلم فلا يزاد في المقادير شيء ، ولا ينقص منها شيء.

ويحكى أن رجلا أتى عمر فقال : أولني مما أولاك الله ، فقال : أتقرأ القرآن ، قال : لا ، قال : إنا لا نولي من لا يقرأ القرآن ، فانصرف الرجل واجتهد حتى تعلم القرآن رجاء أن يعود إلى عمر فيوليه فلما تعلم القرآن تخلف عن عمر فرآه ذات يوم فقال : يا هذا أهجرتنا؟ فقال : يا أمير المؤمنين لست ممن يهجر ، ولكني تعلمت القرآن فأغناني الله عن عمر وعن باب عمر ، قال : فأي آية أغنتك قال : قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) فمن توكل على غيره سبحانه ضاع ، لأنه لا يعلم المصالح وإن علم لا يعلم كيف يستعملها ، وهو سبحانه المنفرد بعلم ذلك كله ولا يعلمه حق علمه غيره.

تنبيه : الآية تفهم أن من لم يتق الله يقتر عليه ، وهو موافق لما روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر ، وإن الرجل ليحرم الزرق بالذنب يصيبه» (١). وتفهم أن من لم يتوكل لم يكف شيئا من الأشياء.

وقال عبد الله بن رافع : لما نزل قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) قال أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فنحن إذا توكلنا عليه نرسل ما كان لنا ولا نحفظه ، فنزل (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) فيكم وعليكم. وقال الربيع بن خيثم : إن الله قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ، ومن آمن به هداه ، ومن أقرضه جازاه ، ومن وثق به نجاه ، ومن دعاه أجاب له. وتصديق ذلك في كتاب الله (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن : ١١](وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ) [التغابن : ١٧](وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [آل عمران : ١٠١] (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة : ١٨٦].

ولما بين تعالى أمر الطلاق والرجعة في التي تحيض ، وكانوا قد عرفوا عدة ذوات الأقراء عرفهم في هذه السورة عدة التي لا ترى الدم. قال أبو عثمان عمر بن سليمان : نزلت عدة النساء في سورة البقرة في المطلقة والمتوفى عنها زوجها ، قال أبي بن كعب : يا رسول الله إن ناسا يقولون قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن شيء الصغار والكبار وذوات الحمل فنزل :

(وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا

__________________

(١) أخرجه الترمذي حديث ٢١٣٩ ، وابن ماجه حديث ٩ ، ٤٠٢٢ ، وأحمد في المسند ٥ / ٢٧٧ ، ٢٨٠ ، ٢٨٢.

٣٤٢

وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢))

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ) أي : من المطلقات (مِنَ الْمَحِيضِ) أي : الحيض الآية. وقال مقاتل : لما ذكر قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨] قال خلاد ابن النعمان : يا رسول الله فما عدة التي لم تحض وعدة التي انقطع حيضها وعدة الحبلى فنزلت ، وقيل : إن معاذ بن جبل سأل عن عدة الكبيرة التي يئست فنزلت ، وقال مجاهد : الآية واردة في المستحاضة لا تدري دم حيض هو أو دم علة. واختلف في سن اليأس فالذي عليه الأكثر أنه اثنان وستون سنة ، وقيل : خمس وخمسون ، وقيل : ستون ، وقيل : سبعون.

ولما كان هذا الحكم خاصا بأزواج المسلمين لحرمة فرشهم وحفظ أنسابهم قال تعالى : (مِنْ نِسائِكُمْ) أي : أيها المسلمون سواء كن مسلمات أو من أهل الكتاب (إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي : شككتم في عدتهن (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) كل شهر يقوم مقام حيضة لأن أغلب عوائد النساء أن يكون كل قرء في شهر (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) أي : لصغرهن أو لأنهن لا حيض لهن أصلا ، وإن كن بالغات فعدتهن ثلاثة أشهر أيضا هذا كله في غير المتوفى عنهن أزواجهن ، أما هن فعدتهن ما في آية (أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤] وقرأ : (وَاللَّائِي) في الموضعين ابن عامر والكوفيون بالهمز وياء بعده ، وقرأ قالون وقنبل بالهمز ولا ياء بعده ، وللبزي وأبي عمرو أيضا إبدال الهمزة ياء ساكنة مع المد لا غير.

ولما فرغ من ذكر الحوائل أتبعه ذكر الحوامل بقوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) أي : من جميع الزوجات المسلمات والكافرات المطلقات والمتوفى عنهن (أَجَلُهُنَ) أي : لمنتهى العدة سواء كان لهن مع الحمل حيض أم لا (أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) وهذا على عمومه مخصص لآية (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) لأن المحافظة على عمومه أولى من المحافظة على عموم ذاك في قوله تعالى : (أَزْواجاً) لأن عموم هذه بالذات لأن الموصول من صيغ العموم وعموم أزواجا بالعرض لأنه بدل لا يصلح لجميع الأزواج في حال واحد ، والحكم معلل هنا بوصف الحملية بخلاف ذاك ، ولأن هذه الآية متأخرة النزول عن آية البقرة فتقديمها على تلك تخصيص ، وتقديم تلك في العمل بعمومها رفع لما في الخاص من الحكم فهو نسخ ، والأول هو الراجح للوفاق ، ولأن سبيعة بنت الحارث وضعت حملها بعد وفاة زوجها بليال فأذن لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تتزوج.

تنبيه : إذا وضعت المرأة ما في بطنها من علقة أو مضغة حلت عند مالك ، وقال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة : لا تحل إلا بوضع ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان ، فإن كانت حاملا بتوأمين لم تنقض عدتها حتى تضع الثاني منهما ، ولا بد أن يكون الحمل منسوبا لذي العدة ، أما إذا كان من زنا فلا حرمة له والعدة بالحيض.

ولما كانت أمور النساء في المعاشرة والمفارقة في غاية المشقة كرر بالحث على التقوى إشارة إلى ذلك ، وترغيبا في لزوم ما حده سبحانه فقال عاطفا على ما تقديره فمن لم يحفظ هذه

٣٤٣

الحدود عسر الله تعالى عليه أموره : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) أي : يوجد الخوف من الملك الأعظم إيجادا مستمرا ليجعل بينهم وبين سخطه وقاية من طاعته ، اجتلابا للمأمور واجتنابا للمنهي. (يَجْعَلْ لَهُ) أي : يوجد إيجادا مستمرا باستمرار التقوى ، إن الله لا يمل حتى تملوا (مِنْ أَمْرِهِ) أي : كله في النكاح وغيره (يُسْراً) أي : سهولة وفرجا وخيرا في الدارين بالدفع والنفع ، وذلك أعظم من مطلق الخروج المتقدم في الآية الأولى ، وقال مقاتل : ومن يتق الله في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسرا في توفيقه لطاعته.

(ذلِكَ) أي : الأمر المذكور من جميع هذه الأحكام العالية المراتب (أَمْرُ اللهِ) أي : الملك الأعلى الذي له الكمال كله (أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) وبينه لكم (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) أي : الذي لا أمر لأحد معه في أحكامه فيراعي حقوقها (يُكَفِّرْ) أي : يغط تغطية عظيمة (عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) ليتخلى عن المبعدات ، فإن الحسنات يذهبن السيئات (وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) بأن يبدل سيئاته حسنات ، ويوفيه أجرها في الدارين مضاعفة فيتحلى بالقربات ، وهذا أعظم من مطلق اليسر المتقدم.

(أَسْكِنُوهُنَ) وقال الرازي : أسكنوهن وما بعده بيان لما شرط من التقوى في قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) كأنه قيل : كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل : أسكنوهن.

وقوله تعالى : (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) فيه وجهان : أحدهما : أن من للتبعيض ، قال الزمخشري : مبعضها محذوف ، معناه : أسكنوهن مكانا من حيث سكنتم ، أي : بعض مكان سكناكم كقوله تعالى : (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) [النور : ٣٠] أي : بعض أبصارهم. قال قتادة : إن لم يكن إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه. قال الرازي : وقال الكسائي : من صلة ، والمعنى : اسكنوهن حيث سكنتم. والثاني : أنها لابتداء الغاية ، قاله الحوفي وأبو البقاء. قال أبو البقاء : والمعنى : تسببوا إلى إسكانهن من الوجه الذي تسكنون أنفسكم ، ودل عليه قوله تعالى : (مِنْ وُجْدِكُمْ) أي : من وسعكم ، أي : ما تطيقونه وفي إعرابه وجهان : أحدهما : أنه عطف بيان لقوله تعالى : (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) وإليه ذهب الزمخشري وتبعه البيضاوي. قال ابن عادل : أظهرهما أنه بدل من قوله (مِنْ حَيْثُ) بتكرار العامل ، وإليه ذهب أبو البقاء كأنه قيل : أسكنوهن من وسعكم.

(وَلا تُضارُّوهُنَ) أي : حال السكنى في المساكن ولا في غيره (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) حتى تلجؤهن إلى الخروج (وَإِنْ كُنَ) أي : المطلقات (أُولاتِ حَمْلٍ) أي : من الأزواج من طلاق بائن أو رجعي (فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) وإن مضت الأشهر (حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) فيخرجن من العدة ، وهذا يدل على اختصاص استحقاق النفقة بالحامل من المعتدات البوائن والأحاديث تؤيده.

قال القرطبي : اختلف العلماء في المطلقة ثلاثا على ثلاثة أقوال : فذهب مالك والشافعي أن لها السكنى ولا نفقة لها ، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه أن لها السكنى والنفقة ، ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور لا نفقة لها ولا سكنى ، لحديث فاطمة بنت قيس قالت : «دخلت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعي أخو زوجي ، فقلت : إن زوجي طلقني وإن هذا يزعم أن ليس لي سكنى ولا نفقة ، قال : بل لك السكنى والنفقة ، فقال : إن زوجها طلقها ثلاثا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما السكنى والنفقة لمن له عليها رجعة» (١) فلما قدمت الكوفة طلبني الأسود بن يزيد ليسألني عن ذلك فإن أصحاب عبد الله يقولون :

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٦ / ٤١٦ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٧ / ٤٧٣ ، ٤٧٤ ، والدارقطني في سننه ٤ / ٢٢.

٣٤٤

إن لها السكنى والنفقة. وعن الشعبي قال : لقيني الأسود بن يزيد فقال : يا شعبي اتق الله وارجع عن حديث فاطمة بنت قيس ، فإن عمر كان يجعل لها السكنى والنفقة ، فقلت : لا أرجع عن شيء. حدثتني فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأنه لو كان لها سكنى لما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم.

وأجيب عن ذلك : بما روت عائشة أنها قالت : كانت فاطمة في مكان وحش فخيف على ناحيتها ، وقال سعيد بن المسيب : إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على إحمائها ، وقال قتادة وابن أبي ليلى : لا سكن إلا للرجعية لقوله تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) [الطلاق : ١] وقوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَ) راجع لما قبله وهي المطلقة الرجعية (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) أي : بعد انقضاء علقة النكاح (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي : على ذلك الإرضاع وللرجل أن يستأجر امرأته للرضاع كما يستأجر أجنبية ، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم تبن ، ويجوز عند الشافعي مطلقا وقوله تعالى : (وَأْتَمِرُوا) خطاب للأزواج والزوجات ، أي : ليأمر بعضكم بعضا في الإرضاع والأجر فيه وغير ذلك ، وليقبل بعضكم أمر بعض.

وقال الكسائي : ائتمروا تشاوروا ، وتلا قوله تعالى : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ) [القصص : ٢٠] وأنشد قول امرىء القيس (١) :

ويعدو على المرء ما يأتمر

وزادهم رغبة في ذلك بقوله تعالى : (بَيْنَكُمْ) أي : إن هذا الخير لا يعدوكم ، وأكد ذلك بقوله تعالى : (بِمَعْرُوفٍ) ونكره سبحانه تخفيفا على الأمة بالرضى بالمستطاع ، وهو يكون مع الأخلاق بالاتصاف ، ومع النفس بالخلاف (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) أي : طلب كل منكم ما يعسر على الآخر ، كأن طلبت المرأة الأجرة وطلب الزوج إرضاعها مجانا (فَسَتُرْضِعُ لَهُ) أي : الأب (أُخْرى) أي : مرضعة غير الأم ويغني الله تعالى عنها ، وليس له أن يكرهها على ذلك ، نعم إذا لم يقبل ثدي غيرها أو لم يوجد غيرها أجبرت على ذلك بالأجرة ، وهذا الحكم لا يختص بالمطلقة بل المنكوحة كذلك.

واختلفوا فيمن يجب عليه رضاع الولد ، فقال مالك : رضاع الولد على الزوجة ما دامت الزوجية إلا لشرفها وموضعها فعلى الأب رضاعه حينئذ في ماله ، وقال أبو حنيفة : لا يجب على الأم بحال ، وقيل : يجب عليها بكل حال. ولو طلبت الأم أجرة المثل وهناك أجنبية ترضع بدون أجرة المثل ، أو متبرعة تخير الأب بينهما ولا يضيق على الأب بدفع الأجرة لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما أو قطيعة رحم (٢). وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي

__________________

(١) صدره :

أحار بن عمرو كأني خمر

والبيت من المتقارب ، وهو لامرئ القيس في ديوانه ص ١٥٤ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٧٤ ، والدرر ٥ / ١٧٩ ، ولسان العرب (أمر) (خمر) ، (نفس) ، وللنمر بن تولب في ملحق ديوانه ص ٤٠٤ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ١ / ١٢ ، والمقتضب ٤ / ٢٣٤.

(٢) أخرجه البخاري في المناقب باب ٢٣ ، والأدب باب ٨٠ ، والحدود باب ١٠ ، ومسلم في الفضائل حديث ٧٧ ، ٧٨ ، وأبو داود في الأدب باب ٤ ، والترمذي في المناقب باب ٣٤ ، ومالك في حسن الخلق حديث

٣٤٥

بالإمالة محضة ، وقرأ ورش بين بين ، والباقون بالفتح.

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ) أي : مال واسع ولم يكلفه تعالى جميع وسعه بل قال تعالى : (مِنْ سَعَتِهِ) أي : لينفق الزوج على زوجته وولده الصغير على قدر وسعه إذا كان موسعا عليه (وَمَنْ قُدِرَ) أي : ضيق (عَلَيْهِ رِزْقُهُ) فعلى قدر ذلك فيقدر النفقة بحسب حال المنفق ، والحاجة من المنفق عليه بالاجتهاد على مجرى العادة. قال تعالى : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة : ٢٣٣] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهند : «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» (١) لكن نفقة الزوجة مقدرة عند الشافعي محدودة فلا اجتهاد للحاكم ولا للمفتي فيها ، وتقديرها هو بحسب حال الزوج وحده من يسار وإعسار ، ولا اعتبار بحالها فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس ، فيلزم الزوج الموسر مدان ، والمتوسط مد ونصف ، والمعسر مد لظاهر قوله تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) فجعل الاعتبار بالزوج في اليسر والعسر ، ولأن الاعتبار بحالها يؤدي إلى الخصومة لأن الزوج يدعي أنها تطلب فوق كفايتها وهي تزعم أنها تطلب قدر كفايتها فقدرت قطعا للخصومة. وقوله تعالى : (فَلْيُنْفِقْ) أي : وجوبا على المرضع وغيرها من كل ما أوجبه الله تعالى عليه. (مِمَّا آتاهُ اللهُ) أي : الملك الذي لا ينفد ما عنده ، ولو من رأس المال ومتاع البيت (لا يُكَلِّفُ اللهُ) أي : الذي له الملك كله (نَفْساً) أيّ نفس كانت. (إِلَّا ما آتاها) أي : أعطاها من المال (سَيَجْعَلُ اللهُ) أي : الملك الذي له الكمال كله فلا خلف لوعده. (بَعْدَ عُسْرٍ) أي : بعد كل عسر (يُسْراً) وقد صدق الله وعده فيمن كانوا موجودين بعد نزول الآية ففتح عليهم جميع جزيرة العرب ، ثم فارس والروم حتى صاروا أغنى الناس وصدق الآية دائم غير أنه في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ونفعنا بهم آمين لأن إيمانهم أتم. قال القشيري : وانتظار اليسر من الله صفة المتوسطين في الأحوال الذين انحطوا عن درجة الرضا ، وارتقوا عن حد اليأس والقنوط ، ويعيشون في إفناء الرجال ، ويتعللون بحسن المواعيد ا. ه.

ولما ذكر الأحكام والمواعظ والترغيب لمن أطاع حذر من خالف بقوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ) هي كاف الجر دخلت على أيّ بمعنى : كم (مِنْ قَرْيَةٍ) أي : وكثير من القرى. وقرأ ابن كثير بالألف بعد الكاف وبعد الألف همزة مكسورة وقفا ووصلا ، وقرأ الباقون في الوصل بهمزة مفتوحة بعد الكاف وبعد الهاء ياء تحتية مكسورة مشددة ، وعبر عن أهل القرية بها مبالغة فقال : (عَتَتْ) أي : استكبرت وجاوزت الحد في عصيانها وطغيانها فأعرضت عنادا (عَنْ أَمْرِ رَبِّها) أي : الذي أحسن إليها ولا يحسن إليها غيره (وَرُسُلِهِ) فلم تقبل منهم ما جاؤوا به عن الله تعالى ، فإن طاعتهم من طاعته (فَحاسَبْناها) أي : في الآخرة وإن لم تجىء لتحقق وقوعها (حِساباً شَدِيداً) أي : بالمناقشة والاستقصاء (وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) أي : منكرا فظيعا ، وهو عذاب النار ، وقيل : العذاب في الدنيا فيكون على حقيقته ، أي : جازيناها بالعذاب في الدنيا ، وعذبناها عذابا نكرا في الآخرة ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، أي : فعذبناها عذابا نكرا في الدنيا بالجوع والقحط ، والسيف ،

__________________

٢ ، وأحمد في المسند ٦ / ٨٥ ، ١١٣ ، ١١٤ ، ١١٦ ، ١٣٠ ، ١٦٢ ، ١٨٢ ، ١٨٩ ، ١٩١ ، ٢٠٩ ، ٢٢٣ ، ٢٣٢ ، ٢٦٢.

(١) أخرجه البخاري في النفقات حديث ٥٣٦٤ ، وأبو داود في البيوع حديث ٣٥٣٢ ، والنسائي في القضاة حديث ٥٤٢٠ ، وابن ماجه في التجارات حديث ٢٢٩٣.

٣٤٦

والخسف والمسخ ، وسائر المصائب ، وحاسبناها حسابا شديدا في الآخرة. وقرأ نافع وابن ذكوان وشعبه بضم الكاف ، والباقون بسكونها.

(فَذاقَتْ) أي : فتسبب عن ذلك أنها ذاقت (وَبالَ) أي : عقوبة (أَمْرِها) أي : كفرها.

(وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) أي : في الدنيا بالأسر وضرب الجزية ، وغير ذلك ، وفي الآخرة بعذاب النار ، فإن من زرع الشوك كما قال القشيري لا يجني الورد ، ومن أضاع حق الله تعالى لا يطاع في حظ نفسه ، ومن احترف بمخالفة أمر الله تعالى فليصبر على عقوبته.

ثم استأنف الجواب عمن يقول هل لها غير هذا في غير هذه الدار بقوله تعالى : (أَعَدَّ اللهُ) أي : الملك الأعظم (لَهُمْ) بعد الموت وبعد البعث (عَذاباً شَدِيداً) وفي ذلك تكرير للوعيد وبيان لما يوجب التقوى المأمور بها (فَاتَّقُوا اللهَ) أي : الذي له الأمر كله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه (يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي : يا أصحاب العقول الصافية النافذة من الظواهر إلى البواطن ، وقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا) منصوب بإضمار أعني بيانا للمنادى في قوله تعالى : (يا أُولِي الْأَلْبابِ) أو يكون عطف بيان للمنادى أو نعتا له ، أي : خلصوا من دائرة الشرك وأوجدوا الإيمان حقيقة (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ) أي : الذي له صفات الكمال (إِلَيْكُمْ ذِكْراً) هو القرآن ، وفي نصب (رَسُولاً) أوجه :

أحدها : قال الزجاج والفارسي : إنه منصوب بالمصدر المنون قبله ، لأنه ينحل لحرف مصدري وفعل ، كأنه قيل : أن ذكر رسولا ، ويكون ذكره الرسول قوله : محمد رسول الله ، والمصدر المنون عامل كقوله تعالى (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً) [البلد : ١٤ ـ ١٥].

الثاني : جعل نفس الذكر مبالغة فأبدل منه ، ويكون محمولا على المعنى كأنه قال : قد أظهر لكم ذكرا رسولا ، فيكون من باب بدل الشيء من الشيء ، وهو هو.

الثالث : أنه بدل منه على حذف مضاف من الأول تقديره : أنزل ذا ذكر رسولا.

الرابع : أنه بدل منه على حذف مضاف من الثاني أي : ذكرا ذكر رسول.

الخامس : أنه منصوب بفعل مقدر ، أي : وأرسل رسولا (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ) هي دلائل الملك الأعظم الظاهرة جدا حال كونها (مُبَيِّناتٍ) أي : لا لبس فيها بوجه. واختلف الناس في رسولا هل هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو جبريل؟ الأكثر على الأول واقتصر عليه الجلال المحلي ، واقتصر الزمخشري على الثاني ، وهو قول الكلبي. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسر الياء بعد الموحدة ، والباقون بالفتح (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقروا بالشهادتين (وَعَمِلُوا) تصديقا لما قالوه بألسنتهم وتحقيقا لأنه من قلوبهم (الصَّالِحاتِ) أي : ليحصل لهم ما هم عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح ، أو ليخرج من علم أو قدر أنه مؤمن (مِنَ الظُّلُماتِ) أي : الضلالة (إِلَى النُّورِ) أي : الهدى.

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ) أي : يجدد في كل وقت على الدوام الإيمان بالملك الأعلى بأن لا يزال في ترق في معارج معارفه (وَيَعْمَلْ) على التجديد المستمر (صالِحاً) لله وفي الله فله دوام النعماء ، وهو معنى إدخاله الجنة كما قال تعالى : (يُدْخِلْهُ) أي : عاجلا مجازا بما يفتح الله له من لذات المعارف ويفتح له من الأنس ، وآجلا حقيقة (جَنَّاتٍ) أي : بساتين هي في غاية ما يكون من جمع جميع الأشجار وحسن الدار وبين دوام ريها بقوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي : من تحت غرفها (الْأَنْهارُ) فهي في غاية الري بحيث أن ساكنها يجري في أي موضع أراد نهرا.

٣٤٧

وقرأ نافع وابن عامر ندخله بالنون ، والباقون بالياء التحتيه. (خالِدِينَ فِيها) وأكد معنى الخلود بقوله تعالى : (أَبَداً) ليفهم الدوام بلا انقضاء. وقوله تعالى : (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ) أي : الملك الأعلى ذو الجلال والإكرام (اللهِ) أي : خاصة (رِزْقاً) أي : عظيما عجيبا فيه تعجب وتعظم لما رزقوا من الثواب.

وقال القشيري : الحسن ما كان على حد الكفاية لا نقصان فيه يتعطل عن أموره بسببه ، ولا زيادة تشغله عن الاستمتاع بما رزق لحرصه ، كذلك أرزاق القلوب أحسنها أن يكون له من الأحوال ما يستقل بها من غير نقصان ولا زيادة لا يقدر على الاستمرار عليها.

ثم بين كمال قدرته بقوله تعالى : (اللهُ) أي : الذي له جميع صفات الكمال التي القدرة الشاملة إحداها : (الَّذِي خَلَقَ) أي : أوجد وحده من العدم بقدرته على وفق ما دبر بعلمه على هذا المنوال الغريب البديع (سَبْعَ سَماواتٍ) أي : وأنتم تشهدون عظمة ذلك ، وتشهدون أنه لا يقدر عليه إلا تام القدرة والعلم الكامل (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) أي : سبعا أما كون السموات سبعا بعضها فوق بعض فلا خلاف فيه لحديث الإسراء وغيره.

وأما الأرضون فقال الجمهور : إنها سبع أرضين طباقا بعضها فوق بعض ، بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض ، وفي كل أرض سكان من خلق الله. وقال الضحاك : إنها سبع أرضين ولكنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السموات. قال القرطبي : والأول أصح لأن الأخبار دالة عليه كما روى البخاري وغيره روى أبو مروان عن أبيه أن كعبا حلف له بالله الذي فلق البحر لموسى أن صهيبا حدثه «أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها اللهم رب السموات السبع وما أظللن ، ورب الأرضين السبع وما أقللن ، ورب الشياطين وما أضللن ، ورب الرياح وما أذرين ، إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر من فيها» (١) وروى مسلم عن سعيد بن زيد قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من ظلم قيد شبر من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين» (٢) قال البقاعي : رأيت في التعدد حقيقة حديثا صريحا لكن لا أدري حاله ، ذكره ابن برجان في اسمه تعالى الملك من شرحه الأسماء الحسنى ، قال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أتدرون ما تحت هذه الأرض ، قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : هواء أتدرون ما تحت ذلك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : أرض ، أتدرون ما تحت ذلك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم حتى عد سبع أرضين» (٣) ثم رأيته في الترمذي عن أبي رزين العقيلي ولفظه : «هل تدرون ما الذي تحتكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : إنها الأرض ، ثم قال : أتدرون ما تحت ذلك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : إن تحتها أرضا أخرى خمسمائة سنة حتى عد سبع أرضين ، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة» (٤) ثم رأيت في الفردوس عن ابن مسعود رضي الله عنه أن

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٢) أخرجه البخاري في المظالم حديث ٢٤٥٣ ، ومسلم في المساقاة حديث ١٦١٠ ، والترمذي في الديات حديث ١٤١٨ ، والدارمي في البيوع حديث ٢٦٠٦.

(٣) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٤) أخرجه الترمذي في تفسيره القرآن حديث ٣٢٩٨.

٣٤٨

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما بين السماء إلى السماء خمسمائة عام وعرض كل سماء وثخانة كل سماء خمسمائة عام وما بين السماء السابعة وبين الكرسي والعرش مثل ذلك وما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام ، والأرضون وعرضهن وثخانتهن مثل ذلك» (١) ا. ه.

قال الماوردي : وعلى أنها سبع أرضين تختص دعوة الإسلام بأهل الأرض العليا ، ولا تلزم من في غيرها من الأرضين ، وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز وفي مشاهدتهم السماء واستمدادهم الضوء منها قولان : أحدهما أنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم ، ويستمدون الضياء منها ، قال ابن عادل : وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة. الثاني : أنهم لا يشاهدون السماء ، وأن الله تعالى خلق لهم ضياء يشاهدونه ، قال ابن عادل : وهذا قول من جعل الأرض كرية. وحكى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها سبع أرضين منبسطة ليس بعضها فوق بعض تفرق بينها البحار وتظل جميعهم السماء ، فعلى هذا إن لم يكن لأحد من أهل الأرض وصول إلى أرض أخرى اختصت دعوة الإسلام بهذه الأرض ، وإن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى احتمل أن تلزمهم دعوة الإسلام لإمكان الوصول إليهم ، لأن فصل البحار إذا أمكن سلوكها لا يمنع من لزوم ما عم حكمه ، واحتمل أن لا تلزمهم دعوة الإسلام لأنها لو لزمتهم لكان النص بها واردا ولكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها مأمورا.

وقال بعض العلماء : السماء في اللغة عبارة عما علاك ، فالأولى بالنسبة إلى السماء الثانية أرض ، وكذلك السماء الثانية بالنسبة إلى الثالثة أرض ، وكذا البقية بالنسبة إلى ما تحته سماء ، وبالنسبة إلى ما فوقه أرض. فعلى هذا تكون السموات السبع وهذه الأرض الواحدة سبع سموات وسبع أرضين (يَتَنَزَّلُ) أي : بالتدريج (الْأَمْرُ) قال مقاتل وغيره : أي : الوحي ، وعلى هذا يكون قوله تعالى : (بَيْنَهُنَ) إشارة إلى ما بين هذه الأرض العليا التي هي أولاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها ، والأكثرون على أن الأمر هو القضاء والقدر فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى (بَيْنَهُنَ) إشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها ، فيجري أمر الله وقضاؤه بينهن ، وينفذ حكمه فيهن.

وعن قتادة : في كل أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه ، وأمر من أمره ، وقضاء من قضائه. وقيل : هو ما يدبر فيهن من عجائب تدبيره. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن نافع بن الأزرق سأله هل تحت الأرض من خلق؟ قال : نعم قال : فما الخلق؟ قال : إما ملائكة أو جن. وقال مجاهد : يتنزل الأمر من السموات السبع إلى الأرضين السبع ، وقال الحسن : بين كل سماءين أرض وأمر ، وقيل : يتنزل الأمر بينهن بحياة بعض ، وموت بعض ، وغنى قوم ، وفقر قوم. وقيل : ما يدبر فيهن من عجيب تدبيره فينزل المطر ويخرج النبات ، ويأتي الليل والنهار ، والصيف والشتاء ، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيآتها ، فينقلهم من حال إلى حال.

قال ابن كيسان : وهذا على اتساع اللغة كما يقال للموت : أمر الله ، وللريح والسحاب ونحوها. وقوله تعالى : (لِتَعْلَمُوا) متعلق بمحذوف ، أي : أعلمكم بذلك الخلق والإنزال لتعلموا (أَنَّ اللهَ) أي : الملك الأعلى الذي له الإحاطة كلها (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) أي : من غير هذا العالم

__________________

(١) أخرجه بنحوه السيوطي في الدر المنثور ١ / ٤٣ ، والديلمي في مسند الفردوس ٤ / ٧٨.

٣٤٩

يمكن أن يدخل تحت المشيئة (قَدِيرٌ) بالغ القدرة فيأتي بعالم آخر مثل هذا العالم وأبدع منه وأبدع من ذلك إلى ما لا نهاية له بالاستدلال بهذا العالم ، فإن من قدر على إيجاد ذرة من العدم قدر على إيجاد ما هو دونها ومثلها وفوقها إلى ما لا نهاية له ، لأنه لا فرق في ذلك بين قليل وكثير ، وجليل وحقير (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك : ٣].

قال البقاعي : وإياك أن تصغي إلى من قال : إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان فإنه مذهب فلسفي خبيث ، والآية نص في إبطاله ، وإن نسبه بعض الملحدين إلى الغزالي ، فإني لا أشك أنه مدسوس عليه ، وإن مذهبه فلسفي خبيث بشهادة الغزالي كما بينت ذلك في كتابي «دلائل البرهان» على أن في الإمكان أبدع مما كان قال : ومع كونه مذهب الفلاسفة أخذه أكفر المارقين ابن عربي وأودعه في فصوصه ، وغير ذلك من كتبه ، وأسند في بعضها للغزالي والغزالي بريء منه بشهادة ما وجد من عقائده في الإحياء وغيره انتهى. والبقاعي ممن يقول بكفر ابن عربي ، وابن المقري يقول بكفره وكفر طائفته ، وقد تقدم الكلام على كلامهم (وَأَنَّ اللهَ) أي : الذي له جميع صفات الكمال.

(قَدْ أَحاطَ) لتمام قدرته (بِكُلِّ شَيْءٍ) مطلقا (عِلْماً) فله الخبرة التامة بما يأمر به من الأحكام في العالم بمصالحه ومفاسده ، فلا يخرج شيء عن علمه وقدرته فعاملوه معاملة من يعلم أنه رقيب عليه تسلموا في الدنيا وتسعدوا في الآخرة.

تنبيه : علما منصوب على المصدر المؤكد ، لأن أحاط بمعنى علم ، وقيل : بمعنى والله أحاط إحاطة علما. وما قاله البيضاوي تبعا للزمخشري من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الطلاق مات على سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٥٦٥.

٣٥٠

سورة التحريم

مكية ، وهي اثنتا عشرة آية ، ومائتان وأربعون كلمة وألف وستون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي له الكمال كله على الدوام (الرَّحْمنِ) الذي عم عباده بعظيم الإنعام (الرَّحِيمِ) الذي أتم على خواصه نعمة الإسلام.

واختلف في سبب نزول قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤))

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ) أي الذي لا أمر لأحد معه (لَكَ) فقالت عائشة : «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عند زينب بنت جحش ، فشرب عندها عسلا ، قالت : فتواطيت أنا وحفصة أنّ آيتنا دخل عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلتقل : إني أجد منك ريح مغافير ، فدخل على إحداهما فقالت له ذلك ، فقال : بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له فنزل (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) إلى قوله تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) لعائشة وحفصة» (١) وعنها أيضا قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب الحلوى والعسل ، فكان إذا صلى العصر دار على نسائه فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس ، فسألت عن ذلك فقيل لي : أهدت إليها امرأة من قومها عكة عسل فسقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه شربة ، فقلت : أما والله لنحتالن له فذكرت ذلك لسودة ، وقلت لها : إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له : يا رسول الله أكلت مغافير ، فإنه سيقول لك : لا ، فقولي : ما هذه الريح ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح فإنه سيقول لك : سقتني حفصة شربة عسل ، فقولي له : جرست نحله العرفط ، وسأقول ذلك له وقولي أنت يا صفية ذلك. فلما دخل على سودة قالت سودة : والله الذي لا إله غيره لقد كدت أن أبادئه بالذي قلت وإنه لعلى الباب فرقا منك ، فلما

__________________

(١) أخرجه البخاري في الطلاق حديث ٥٢٦٧ ، ومسلم في الطلاق حديث ١٤٧٤ ، وأبو داود في الأشربة حديث ٣٧١٤ ، والنسائي في الطلاق حديث ٣٤٢١.

٣٥١

دنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلت له : يا رسول الله أكلت مغافير ، قال : لا ، قلت : فما هذه الريح؟ قال : سقتني حفصة شربة عسل ، قالت : جرست نحله العرفط. فلما دخل علي قلت له : مثل ذلك ، ثم دخل على صفية فقالت مثل ذلك ، فلما دخل على حفصة قالت : يا رسول الله ألا أسقيك منه ، قال : لا حاجة لي به ، قالت : تقول سودة سبحان الله لقد حرمناه منه ، قالت : فقلت لها : اسكتي.

ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفصة ، وفي الأولى زينب. وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه شربه عند سودة ، وقيل : إنما هي أم سلمة رواه أسباط عن السدي ، وقاله عطاء بن أبي مسلم.

تنبيه : شرح غريب ألفاظ الحديثين وما يتعلق بهما قولها : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب الحلوى بالمد والقصر قاله في «المصباح» ، وهو على كل شيء يحلو ، وذكر العسل بعدها وإن كان داخلا في جملة الحلوى تنبيها على شرفه ومرتبته ، وهو من باب الخاص بعد العام. وقولها : فتواطيت أنا وحفصة هكذا وقع في الرواية ، وأصله : فتوطأت بالهمز ، أي : اتفقت أنا وحفصة. وقولها : إني لأجد منك ريح مغافير ، هو بغين معجمة وفاء بعدها ياء وراء ، وهو صمغ حلو كالناطف وله ريح كريهة ينضحه شجر يقال له : العرفط بضم العين المهملة والفاء يكون بالحجاز ، وقيل : العرفط نبات له ورق يفرش على الارض له شوك وثمره خبيث الرائحة.

وقال أهل اللغة : العرفط من شجر العضاه ، وهو كل شجر له شوك. وقيل رائحته كرائحة النبيذ ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكره أن توجد منة رائحة كريهة.

قولها : جرست نحله العرفط بالجيم والراء وبالسين المهملتين ، ومعناه : أكلت نحله العرفط فصار منه العسل.

قال القاضي عياض : والصواب أن شرب العسل كان عند زينب بنت جحش ، ذكره النووي في شرح مسلم ، وكذا ذكره أيضا القرطبي. وقال أكثر المفسرين في سبب نزول ذلك : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقسم بين نسائه فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في زيارة أبيها فأذن لها ، فلما خرجت أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جاريته مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة فوقع عليها فلما رجعت حفصة وجدت الباب مغلقا فجلست عند الباب فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجهه يقطر عرقا وحفصة تبكي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يبكيك؟ فقالت : إنما أذنت لي من أجل ذلك أدخلت أمتك بيتي ثم وقعت عليها في يومي على فراشي ، أما رأيت لي حرمة وحقا ، ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أليس هي جاريتي قد أحلها الله لي فهي حرام علي ألتمس بذلك رضاك فلا تخبري بهذا امرأة منهن ، فلما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة فقالت : ألا أبشرك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حرم عليه أمته مارية ، وأن الله قد أراحنا منها ، وأخبرت عائشة بما رأت وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فغضبت عائشة ، فلم يزل نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى حلف أن لا يقربها».

وعن أنس بن مالك «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان له أمة يطؤها ، فلم تزل عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه ، فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) الآية» أخرجه النسائي (١).

__________________

(١) كتاب عشرة النساء حديث ٣٩٥٩.

٣٥٢

فإن قيل : قوله تعالى : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) يوهم أن الخطاب بطريق العتاب ، وخطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينافي ذلك لما فيه من التشريف والتعظيم؟

أجيب : بأنه ليس بطريق العتاب بل بطريق التنبيه على أن ما صدر منه لم يكن على ما ينبغي.

فإن قيل : تحريم ما أحل الله غير ممكن ، فكيف قال (لما تحرم ما أحل الله لك) أجيب : بأن المراد بهذا التحريم هو الامتناع من الانتفاع بالأزواج لا اعتقاد كونه حراما بعدما أحله الله تعالى ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم امتنع من الانتفاع بها مع اعتقاد كونها حلالا ، فإن من اعتقد أن هذا التحريم هو تحريم ما أحل الله فقد كفر ، فكيف يضاف إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (تَبْتَغِي) أي : تريد إرادة عظيمة من مكارم أخلاقك وحسن صحبتك (مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) أي : الأحوال والأمور والمواضع التي يرضين بها ، وهن أولى بأن يبتغين رضاك ، وكذا جميع الخلق لتتفرغ لما يوحى إليك من ربك لكن ذلك للزوجات آكد (وَاللهُ) أي : الملك الأعلى (غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : محاء ستور لما يشق على خلص عباده مكرم لهم ، فقد غفر لك هذا التحريم.

ثم علل وبين ذلك بقوله تعالى : (قَدْ فَرَضَ اللهُ) أي : قدر ذو الجلال والإكرام الذي لا شريك له ولا أمر لأحد معه ، وعبر بالفرض حثا على قبول الرخصة إشارة إلى أن ذلك لا يقدح في الورع ، ولا يخل بحرمة اسم الله تعالى لأن أهل الهمم العوالي لا يجوزون النقلة من عزيمة إلى رخصة ، بل من رخصة إلى عزيمة أو عزيمة إلى مثلها.

ولما كان التخفيف على أمته تعظيما له صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال تعالى : (لَكُمْ) أيتها الأمة التي أنت رأسها (تَحِلَّةَ) أي : تحليل (أَيْمانِكُمْ) بالكفارة المذكورة في سورة المائدة ، وقيل : قد شرع الله لكم الاستثناء في أيمانكم من قولك : حلل فلان في يمينه إذا استثنى بمعنى استثن في يمينك إذا أطلقتها بأن تقول : إن شاء الله متصلا بحلفك ، وتنويه قبل الفراغ منه.

واختلف أهل العلم في لفظ التحريم ، فقال قوم : هو ليس بيمين ، فإن قال لزوجته : أنت حرام أو حرّمتك فإن نوى به طلاقا فهو طلاق ، وإن نوى به ظهارا فهو ظهار ، وإن نوى تحريم ذاتها وأطلق فعليه كفارة يمين وإن قال لطعام : حرمته على نفسي فلا شيء عليه ، وهذا قول ابن مسعود رضي الله عنه ، وإليه ذهب الشافعي.

وروى الدارقطني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أتاه رجل فقال : إني جعلت امرأتي علي حراما ، فقال : كذبت ليست عليك بحرام وتلا عليه هذه الآية (١). وذهب جماعة إلى أنه يمين فإن قال ذلك لزوجته أو جاريته فلا تجب الكفارة ما لم يقربها ، كما لو حلف لا يأكله فلا كفارة عليه ما لم يأكله ، يروى ذلك عن أبي بكر وعائشة ، وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة.

وعند أبي حنيفة إن نوى الطلاق بالحرام كان بائنا ، وإن قال : كل حلال عليه حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو ، وإلا فعلى ما نوى ، نقله الزمخشري. وعن عمر : إذا نوى الطلاق فرجعي ، وعن علي : ثلاث ، وعن زيد واحدة بائنة.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها ، وقال : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. قال مقاتل : فأعتق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الواقعة رقبة. قال

__________________

(١) انظر سنن الدارقطني ٤ / ٤٣.

٣٥٣

زيد بن أسلم : وعاد إلى مارية ، وقال الحسن : لم يكفر عليه‌السلام لأنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وكفارة اليمين في هذه السورة إنما أمر بها الأمة. قال ابن عادل : والأول أصح ، وأن المراد بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم الأمة تقتدي به في ذلك (وَاللهُ) أي : والحال أن المختص بأوصاف الكمال (مَوْلاكُمْ) أي : يفعل معكم فعل القريب الصديق فهو سيدكم ومتولي أموركم (وَهُوَ) أي : وحده (الْعَلِيمُ) أي : البالغ العلم بمصالحكم وغيرها إلى ما لا نهاية له. (الْحَكِيمُ) أي : الذي يضع كل ما يصدر عنه لكم في أتقن محاله بحيث لا يقدر غيره أن يغيره ولا شيئا منه.

والعامل في قوله تعالى : (وَإِذْ) اذكر فهو مفعول به لا ظرف ، والمعنى اذكر إذ (أَسَرَّ النَّبِيُ) أي : الذي شأنه أن يرفعه الله تعالى دائما فإنه ما ينطق عن الهوى (إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ) وأبهمها لم يعينها تشريفا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولها وهي حفصة صيانة لهن لأن حرمتهن من حرمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم (حَدِيثاً) ليس هو من شأن الرسالة ولو كان من شأنها لعم به ولم يخص به ، ولا أسره وذلك هو تحريمه فتاته على نفسه ، وقوله لحفصة : لا تخبري بذلك أحدا ، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : أسرّ أمر الخلافة بعده فحدثت حفصة ، وقال الكلبي : أسرّ إليها إن أباك وأب عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي ، وقال ميمون بن مهران : أسر أن أبا بكر خليفتي من بعدي (فَلَمَّا نَبَّأَتْ) أي : أخبرت (بِهِ) عائشة ظنا منها أنه لا حرج عليها في ذلك (وَأَظْهَرَهُ اللهُ) أي : أطلعه الملك الذي له الإحاطة بكل شيء (عَلَيْهِ) أي : الحديث على لسان جبريل عليه‌السلام بأنه قد أفشى مناصحة له في إعلامه بما يقع في غيبته ليحذره إن كان شرا ويثبت عليه إن كان خيرا وقيل : أظهر الله الحديث على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الظهور (عَرَّفَ) أي : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي أسرّ إليها (بَعْضَهُ) أي : بعض ما فعلت (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) أي : إعلام بعض تكرما منه أن يستقصي في العبارات وحياء وحسن عشرة ، قال الحسن : ما استقصى كريم قط ، وقال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام ، وإنما عاتبها على ذكر الإمامة وأعرض عن ذكر الخلافة خوفا من أن ينتشر في الناس ، فربما أثار حسد بعض المنافقين وأورث الحسود للصديق كيدا.

وقال بعض المفسرين : إنه أسر إلى حفصة شيئا فحدثت به غيرها فطلقها مجازاة على بعضه ، ولم يؤاخذها بالباقي وهو من قبيل قوله تعال : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) [البقرة : ١٩٧] أي : يجازيكم عليه ، وقيل : المعرّف حديث الإمامة ، والمعرض عنه حديث مارية. وروي «أنه قال لها : ويلك ألم أقل لك أكتمي علي ، قالت : والذي بعثك بالحق نبيا ما ملكت نفسي فرحا بالكرامة التي خص الله تعالى بها أباها» (١)(فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ) أي : بما فعلت على وجه لم يغادر من ذلك الذي عرفها به شيئا منه ، ولا من عوارضه لتزداد بصيرة.

روي أنها قالت لعائشة سرا فأنا أعلم أنها لا تظهره ، قاله الملوي ، وهو معنى قوله تعالى : (قالَتْ) أي : ظنا منها أن عائشة أفشت عليها (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) أي : من أخبرك أني أفشيت السر (قالَ نَبَّأَنِيَ) وحذف المتعلق اختصارا للفظ وتكسيرا للمعنى بالتعميم إشارة أنه أخبره بجميع ما دار بينها وبين عائشة على أتم ما كان. (الْعَلِيمُ) أي : المحيط العلم (الْخَبِيرُ) أي : المطلع على الضمائر والظواهر ، فهو أولى أن يحذر فلا يتكلم سرا أو جهرا إلا بما يرضيه.

__________________

(١) أخرجه الدارقطني في سننه ٤ / ١٥٣.

٣٥٤

وقوله تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) أي : الملك الأعظم شرط ، وفي جوابه وجهان : أحدهما : قوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) والمعنى : أن تتوبا فقد وجد منكما ما يوجب التوبة ، وهو ميل قلوبكما عن الواجب في مخالفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حب ما يحب وكراهة ما يكره. وصغت : مالت وزاغت عن الحق ، قال القرطبي : وليس قوله : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) جواب الشرط لأن هذا الصغو كان سابقا فجزاء الشرط محذوف للعلم به أي : أن تتوبا كان خيرا لكما إذ قد صغت قلوبكما. الثاني : أن الجواب محذوف تقديره : فذلك واجب عليكما ، أو فتاب الله عليكما ، قاله أبو البقاء. ودل على المحذوف (فَقَدْ صَغَتْ) لأن إصغاء القلب إلى ذلك ذنب. قال بعضهم : وكأنه زعم أن ميل القلب ذنب ، وكيف يحسن أن يكون جوابا وقد غفل عن المعنى المصحح لكونه جوابا.

تنبيه : قوله تعالى : (قُلُوبُكُما) من أفصح الكلام حيث أوقع الجمع موقع المثنى استثقالا لمجيء تثنيتين لو قيل : قلباكما ، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين من اثنين جمعوهما لأنه لا يشكل ، والأحسن في هذا الباب الجمع ثم الإفراد ثم التثنية كقوله (١) :

فتخالسا نفسيهما بنوافذ ال

غيظ الذي من شأنه لم يرفع

وقال ابن عصفور : لا يجوز الإفراد إلا في ضرورة ، كقوله (٢) :

حمامة بطن الواديين ترنمي

سقاك من الغر الغوادى مطيرها

وتبعه أبو حيان ، وغلط ابن مالك في كونه جعله أحسن من التثنية. قال ابن عادل : وليس بغلط لكراهة توالي تثنيتين مع أمن اللبس ، وقوله تعالى (إِنْ تَتُوبا) فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب ، والمراد بهذا الخطاب إما المؤمنتان بنتا الشيخين الكريمين عائشة وحفصة حثهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنهما كرها ما أحبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إحباب جاريته وإحباب العسل ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب العسل والنساء.

وقال ابن زيد : مالت قلوبكما بأن سرهما أن يحتبس عن أم ولده ، فسرهما ما كرهه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : قد مالت قلوبكما إلى التوبة.

روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : «مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجا فخرجت معه ، فلما رجع وكان ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له فوقفت حتى فرغ ، ثم سرت معه بإداوة ثم جاء فسكبت على يديه منها فتوضأ ، فلما رجع قلت : يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

__________________

(١) يروى البيت بلفظ :

فتخالسا نفسيهما بنوافذ

كنوافذ العبط التي لا ترقع

والبيت من الكامل ، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في الدرر ١ / ١٥٨ ، وشرح اختيارات المفضل ص ١٧٢٦ ، وشرح أشعار الهذليين ١ / ٤٠ ، ولسان العرب (خلس) ، (عبط) ، وبلا نسبة في همع الهوامع ١ / ٥١.

(٢) البيت من الطويل ، وهو للشماخ في ملحق ديوانه ص ٤٣٨ ، ٤٤٠ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٨٦ ، وللمجنون في ديوانه ص ١١٣ ، ولتوبة بن الحمير في الأغاني ١١ / ١٩٨ ، والدرر ١ / ١٥٤ ، والشعر والشعراء ١ / ٤٥٣ ، وبلا نسبة في المقرب ٢ / ١٢٩.

٣٥٥

فقال : تلك حفصة وعائشة ، قال : فقلت له : والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذه منذ سنة فما أستطيع هيبة لك. قال : فلا تفعل ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه فإن كنت أعلمه أخبرتك» (١) ، وفي رواية قال : وا عجبا لك يا ابن عباس.

قال الزهري : كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه ، قال : هما عائشة وحفصة ، ثم أخذ يسوق الحديث ، قال : كنت أنا وجار لي من الأنصار وكان منزلي في بني أمية وهم من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فينزل يوما وأنزل يوما ، فإذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره ، وإذا نزل فعل مثل ذلك. وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فصحت على امرأتي فراجعتني ، فأنكرت أن تراجعني قالت : لم تنكر أن أراجعك؟ فو الله إن أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليراجعنه ، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت لها : أي حفصة أتغاضب إحداكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليوم حتى الليل ، قالت : نعم ، فقلت : قد خبت وخسرت أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله لا تراجعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تسأليه شيئا ، وسليني ما بدا لك ، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد عائشة رضي الله عنها قال عمر : كنا قد تحدثنا أن غسان تنعل الخيل لتغزونا فنزل الأنصاري يوما نوبته ثم أتاني عشاء فضرب بابي ضربا شديدا ، ففزعت فخرجت إليه فقال : قد حدث اليوم أمر عظيم ، قلت : ما هو أجاء غسان؟ قال : لا بل أعظم من ذلك وأهول ، طلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساءه ، فقلت : خابت حفصة وخسرت قد كنت أظن هذا يوشك أن يكون حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي ، فقلت : أطلقكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قالت : لا أدري ها هو ذا معتزل في المشربة فأتيت غلاما له أسود فقلت : أستأذن لعمر فدخل ثم خرج إلي فقال : قد ذكرتك له فصمت ، ثم انطلقت حتى أتيت المنبر فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم ، فجلست قليلا ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام ، فقلت : أستأذن لعمر فدخل ثم خرج فقال : ذكرتك له فصمت فوليت مدبرا فإذا الغلام يدعوني ، فقال : ادخل فقد أذن لك فدخلت فسلمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير وليس بينه وبينه فراش قد أثر الرمال بجنبه متكئا على وسادة من أدم حشوها ليف ، ثم قلت وأنا قائم : يا رسول الله أطلقت نساءك فرفع إلي بصره ، وقال : لا ، فقلت : الله أكبر قلت وأنا قائم لو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فتبسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قلت : يا رسول الله لو رأيتني دخلت على حفصة فقلت لها : لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد عائشة ، فتبسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبسمة أخرى فجلست حين رأيته تبسم فرفعت بصري في بيته فو الله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر غير أهبة ثلاثة ، فقلت : يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارسا والروم قد وسع عليهم وأعطوا الدنيا ، وهم لا يعبدون الله فجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان متكئا ، وقال : «أوفي هذا أنت يا ابن الخطاب ، إن أولئك قوم عجلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا» فقلت : يا رسول الله استغفر الله لي فاعتزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة تسعا وعشرين ليلة ، وكان قال : «ما أنا بداخل عليهن شهرا» من شدة

__________________

(١) أخرجه مسلم في الطلاق حديث ١٤٧٩.

٣٥٦

موجدته عليهن حين عاتبه الله تعالى ، فلما مضت تسع وعشرون ليلة دخل على عائشة فبدأ بها فقالت له عائشة : يا رسول الله إنك كنت أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وإنما أصبحت من تسع وعشرين ليلة أعدها عدا ، فقال : الشهر تسع وعشرون وكان ذلك الشهر تسع وعشرون ليلة قالت عائشة : ثم أنزل الله التخيير فبدأ بي أول امرأة من نسائه فاخترته ، ثم خيرهن فقلن مثلها ، وفي رواية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه ، قالت : فبدأ بي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك ، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه ، قالت : ثم قال : إن الله تعالى قال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) [الأحزاب : ٢٨] إلى تمام الآيتين فقلت : أوفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة» (١) وفي رواية أن عائشة قالت له : لا تخبر نساءك أني اخترتك ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله أرسلني مبلغا» (٢) وفي رواية قال : دخلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله ما يشق عليك من أمر النساء فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل ، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك ، وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام إلا رجوت أن الله يصدق قولي الذي أقول ، ونزلت هذه الآية (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) [التحريم : ٥](وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) [التحريم : ٤]» الآية. وفي رواية «أنه استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخبر الناس أنه لم يطلق نساءه فأذن له ، وأنه قام على باب المسجد ونادى بأعلى صوته لم يطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساءه».

شرح بعض ألفاظ هذا الحديث :

قوله : فعدلت معه أي : فملت معه ، بالإداوة أي : الركوة ، والعوالي جمع عالية ، وهي أماكن بأعلى أرض المدينة. وقوله : لا يغرنك إن كانت جارتك يريد بها الضرة وهي عائشة ، وأوسم منك أي : أكثر حسنا ، وقوله : فكنا نتناوب النزول : التناوب هو ما يفعله الإنسان مرة ، ويفعله آخر بعده ، والمشربة بضم الراء وفتحها الغرفة. وقوله : فإذا هو متكئ على رمال حصير : يقال : رملت الحصير إذا ظفرته ونسجته ، والمراد أنه لم يكن على السرير وطاء سوى الحصير. وقوله : ما رأيت فيه ما يرد البصر إلا أهبة ثلاث : الأهبة والأهب جمع إهاب ، وهو الجلد. وقوله : من شدة موجدته : الموجدة الغضب.

وقرأ : (وَإِنْ تَظاهَرا) الكوفيون بتخفيف الظاء ، والباقون بتشديدها أي : تتعاونا (عَلَيْهِ) أي : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يكرهه (فَإِنَّ اللهَ) الملك الأعظم الذي لا كفء له ، وقوله تعالى : (هُوَ) يجوز أن يكون فصلا ، وقوله : (مَوْلاهُ) الخبر ، وأن يكون مبتدأ ومولاه خبره ، والجملة خبر إن ، والمعنى فإن الله وليه وناصره فلا يضره ذلك التظاهر منهما. وقوله تعالى : (وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) معطوف على محل اسم إن فيكونون ناصريه ، ويجوز أن يكون جبريل مبتدأ وما بعده عطف عليه وظهير خبر الجميع فتختص الولاية بالله.

واختلف في صالح المؤمنين ، فقال عكرمة : هو أبو بكر وعمر ، وقال المسيب بن شريك :

__________________

(١) أخرجه البخاري في المظالم حديث ٢٤٦٨ ، ومسلم في الطلاق حديث ١٤٧٩ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٣١٨ ، والنسائي في الصيام حديث ٢١٣٢.

(٢) أخرجه مسلم في الطلاق حديث ١٤٧٥.

٣٥٧

هو أبو بكر. وقال سعيد بن جبير : هو عمر ، وعن أسماء بنت عميس : هو علي بن أبي طالب. وقال الطبري : هو خيار المؤمنين. وصالح اسم جنس كقوله تعال : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر : ٢] وقال قتادة : هم الأنبياء. وقال ابن زيد : هم الملائكة. وقال السدي : هم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأولى أن يشمل هذه الأقوال كلها (وَالْمَلائِكَةُ) أي : كلهم (بَعْدَ ذلِكَ) أي : الأمر العظيم الذي تقدم ذكره (ظَهِيرٌ) أي : ظهراء أعوان له في نصره عليكما.

تنبيه : أخبر عن الجمع باسم الجنس إشارة إلى أنهم على كلمة واحدة ، ومنهم جبريل عليه‌السلام فهو مذكور خصوصا وعموما ثلاث مرات على القول بأن صالح المؤمنين هم الملائكة إن قلنا بالعموم ، وذلك إظهار لشدة محبته وموالاته للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه الأية عكس آية البقرة ، وهي قوله تعال : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] فإنه ذكر الخاص بعد العام تشريفا له ، وهنا ذكر العام بعد الخاص. قال ابن عادل : ولم يذكر الناس إلا القسم الأول ، وفي جبريل لغات تقدم ذكرها في البقرة.

ولما كان أشد ما على المرأة أن تطلق ، ثم إذا طلقت أن يستبدل بها ، ثم يكون البدل خيرا منها قال تعالى محذرا لهن :

(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢))

(عَسى رَبُّهُ) أي : المحسن إليه بجميع أنواع الإحسان التي عرفتموها ، وما لم تعرفوه منها أكثر جدير وحقيق ووسط بين عسى وخبرها اهتماما وتخويفا قوله تعالى : (إِنْ طَلَّقَكُنَ) أي : بنفسه من غير اعتراض عليه جميعكن أو بعضكن.

قيل : كل عسى في القرآن واجب إلا هذه الآية ، وقيل : هو واجب ولكن الله تعالى علقه بشرط ، وهو التطليق ولم يطلقهن فإن طلقكن شرط معترض بين اسم عسى وخبرها وجوابه محذوف أو متقدم أي : إن طلقكن فعسى ربه وقوله تعالى (أَنْ يُبْدِلَهُ) أي : بمجرد طلاقه. وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء وتشديد الدال ، والباقون بسكون الموحدة وتخفيف الدال. (أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) خبر عسى ، والجملة جواب الشرط ولم يقع التبدل لعدم وجود الشرط.

فإن قيل : كيف تكون المبدلات خيرا منهن ولم يكن على وجه الأرض نساء خيرا منهن لأنهن

٣٥٨

أمهات المؤمنين؟ أجيب : بأنه إذا طلقهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعصيانهن وإيذائهن إياه كان غيرهن من الموصوف بالصفات الآتية مع الطاعة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيرا ، أو أن هذه على سبيل الفرض وهو عام في الدنيا والآخرة ، فلا يقتضي وجود من هو خير منهن مطلقا.

وإن قيل : بوجوده في خديجة لما جرب من تحاملها على نفسها في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبلوغها في حبه والأدب معه ظاهرا وباطنا الغاية القصوى ، ومريم أحسنت حين كانت من القانتين فذلك في الآخرة ، وتعليق تطليق الكل لا يدل على أنه لم يطلق حفصة. فقد روي أنه طلقها ولم يزدها ذلك إلا فضلا لأن الله تعالى أمره أن يراجعها ، لأنها صوامة قوامة.

ثم بين تعالى الخيرية بقوله تعالى : (مُسْلِماتٍ) إلى أخره ، وهو إما نعت ، أو حال ، أو منصوب على الاختصاص. قال سعيد بن جبير : مسلمات يعني مخلصات ، وقيل : مسلمات لأمر الله عزوجل وأمر رسول الله خاضعات لله تعالى بالطاعات (مُؤْمِناتٍ) أي : مصدقات بتوحيد الله تعالى ، وقيل : مصدقات بما أمرن به ونهين عنه ، وقيل : مسلمات مقرات بالإسلام مؤمنات مخلصات (قانِتاتٍ) أي : مطيعات والقنوت الطاعة ، وقيل : داعيات (تائِباتٍ) أي : راجعات من الهفوات والزلات سريعا إن وقع منهن شيء من ذلك ، وقيل : راجعات إلى أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تاركات لمحاب أنفسهن (عابِداتٍ) أي : كثيرات العبادات لله تعالى ، وقال ابن عباس : كل عبادة في القرآن فهو التوحيد (سائِحاتٍ) قال ابن عباس : صائمات ، وقال الحسن : مهاجرات ، وقال ابن زيد : وليس في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سياحة إلا الهجرة ، والسياحة الجولان في الأرض ، وقال الفراء وغيره : سمي الصائم سائحا لأن السائح لا زاد معه فلا يزال ممسكا إلى أن يجد ما يطعمه ، فشبه به الصائم في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره ، وقيل : ذاهبات في طاعة الله تعالى. من ساح الماء إذا ذهب (ثَيِّباتٍ) جمع ثيب ، وهي التي تزوجت ثم بانت بوجه من الوجوه ، أو زالت بكارتها بوطء من غير نكاح (وَأَبْكاراً) أي : عذارى جمع بكر ، وهي ضد الثيب ، وسميت بذلك لأنها على أول حالها التي خلقت بها وقدم الثيبات لأنهن أخبر بالعشرة التي هذا سياقها ، ووسط الواو بين الثيبات والأبكار لتنافي الوصفين دون سائر الصفات.

فإن قيل : كيف ذكر الثيبات في مقام المدح وهن من جملة ما يقل رغبة الرجال فيهن؟ أجيب : بأنه يمكن أن يكون بعض الثيبات خيرا من كثير من الأبكار لاختصاصهن بالمال والجمال.

ولما بالغ سبحانه في عتاب نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع صيانتهن عن التشبه إكراما له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتبع ذلك أمر الأمة بالتأسي به في هذه الأخلاق الكاملة فقال تعالى متبعا لهن بالموعظة الخاصة بموعظة عامة دالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأقرب فالأقرب : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقروا بذلك (قُوا أَنْفُسَكُمْ) أي : اجعلوا لها وقاية بالتأسي به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وترك المعاصي وفعل الطاعات ، وفي أدبه مع الخلق والخالق (وَأَهْلِيكُمْ) من النساء والأولاد وكل من يدخل في هذا الاسم قوهم (ناراً) بالنصح والتأديب ليكونوا متخلقين بأخلاق أهل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما روى الطبراني عن سعيد بن العاص : «ما نحل والد ولدا أفضل من أدب حسن» (١) وفي الحديث : «رحم الله رجلا قال : يا

__________________

(١) أخرجه الترمذي حديث ١٩٥٢ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٨ / ١٥٩ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٣ / ٧٢ ، والحاكم في المستدرك ٤ / ٢٦٣ ، وأحمد في المسند ٤ / ٧٧ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٢ / ١٨.

٣٥٩

أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم لعل الله يجمعكم معهم في الجنة» (١) وقيل : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من جهل أهله ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رحم الله امرأ قام من الليل فصلى فأيقظ أهله ، فإن لم تقم رش على وجهها الماء ، ورحم الله امرأة قامت من الليل تصلي وأيقظت زوجها ، فإن لم يقم رشت على وجهه من الماء» (٢) وقال بعض العلماء : لما قال (قُوا أَنْفُسَكُمْ) دخل فيه الأولاد لأن الولد بعض منه ، كما دخلوا في قوله تعال : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) [النور : ٦١] وقوله عليه الصلاة والسلام : «إن أحل ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه» (٣) فلم يفرد بالذكر أفراد سائر القرابات فيعلمه الحلال والحرام. وقال عليه الصلاة والسلام : «حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ، ويعلمه الكتابة ، ويزوجه اذا بلغ» (٤).

ثم بين تعالى وصف تلك النار بقوله عزوجل : (وَقُودُهَا) أي : الذي توقد به (النَّاسُ) أي : الكفار (وَالْحِجارَةُ) كأصنامهم منها ، وعن ابن عباس أنها حجارة الكبريت ، وهي أشد الأشياء حرا إذا أوقد عليها ، والمعنى أنها مفرطة الحرارة تتقد بما ذكر لا كنار الدنيا تتقد بالحطب ونحوه (عَلَيْها مَلائِكَةٌ) خزنتها عدتهم تسعة عشر كما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة المدثر (غِلاظٌ) أي : غلاظ القلوب لا يرحمون إذا استرحموا خلقوا من الغضب ، وحبب إليهم عذاب الخلق كما حبب لبني أدم أكل الطعام والشراب (شِدادٌ) أي : شداد الأبدان ، وقيل : غلاظ الأقوال شداد الأفعال يدفع واحد منهم بالدفعة الواحدة سبعين ألفا في النار ، لم يخلق الله فيهم الرحمة ، وقيل : في أخذهم أهل النار شداد عليهم ، يقال : فلان شديد على فلان ، أي : قوي عليه يعذبه بأنواع العذاب.

وقيل : غلاظ أجسامهم ضخمة شداد ، أي : الأقوياء. قال ابن عباس : ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خزنة جهنم : «ما بين منكبي كل واحد منهم كما بين المشرق والمغرب» (٥)(لا يَعْصُونَ اللهَ) أي : الملك الأعلى في وقت من الأوقات ، وقوله تعالى : (ما أَمَرَهُمْ) بدل من الجلالة أي : لا يعصون أمر الله ، وقوله تعالى : (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) تأكيد ؛ هذا ما جرى عليه الجلال المحلي. وقال الزمخشري : فإن قلت : أليست الجملتان في معنى واحد؟ قلت : لا فإن معنى الأولى أنهم يقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها ، ومعنى الثانية : أنهم يؤدون ما يؤمرون به لا يتثاقلون عنه ، ولا يتوانون فيه. وقيل : لا يعصون الله ما أمرهم الله فيما مضى ويفعلون ما يؤمرون فيما يستقبل ، وصدر بهذا البيضاوي.

فإن قيل : إنه تعالى خاطب المشركين في قوله تعال : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي

__________________

(١) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١ / ٣٠٠.

(٢) أخرجه أبو داود في الصلاة حديث ١٣٠٨ ، والنسائي في قيام الليل حديث ١٦٠٩ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ١٣٣٦.

(٣) أخرجه النسائي في البيوع حديث ٤٤٥٢ ، وابن ماجه في التجارات حديث ٢١٣٧.

(٤) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٦ / ٣١٧ ، ٣١٨ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٤٥١٩١ ، ٤٥١٩٢ ، ٤٥١٩٣ ، والقرطبي في تفسيره ١٨ / ١٩٥ ، وأبو نعيم في حلية الأولياء ١ / ١٨٤.

(٥) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٨ / ١٩٥.

٣٦٠